مسافة السكة
فور ما انتهت آخر محاضرات اليوم، ينطلق مُثنى في طريقه، ولا
يعرقل سيره أحد. يمر بين التجمعات مر الكرام، كأنه نسيمٌ لم يلاحظه أحد. لماذا قد
ينشغل بهم؟ وهم مشاحنات تافهة، غيبه كريهة، نميمه غليله، مجاملات واهيه، الترفع
عنها راحة للعقل والنفس. ينتهي اللقاء ويتناثر الكاذبون ولا يسلم أحد من دائرة الغيبة.
ينظر مُثنى لنفسه ولا يسأل، يقول لها معاً ولا يجزع، يطبطب عليها حتى تأمن، لا
يملها حتى تهنأ، يرجوها فَكَ السر. يقول لها: مازال في الدنيا سلاماً وظلال، مازال
بين الناس كِرام، تزينوا بالحياء وما أرهقهم حديث الحاقد السفيه، فاختر لنفسك منهم
صحبتاً تلمع أعينهم إذ رأوك مقبلاً.
” الحياء تكريم لصاحبه، والفُجر إزلال لصاحبه،
هذان طريقان الحياه، فأختر لنفسك مسلكاً حيثما لا تندم. “
عاش مُثنى وحيداً بقدر ما أثنى القوم علي كرم خلقه، وحسن
صداقته، ونقاء قلبه. اعتاد الوحدة، لدرجة الشعور بالخوف والقلق من الازدحامان
والضجيج. هو ليس ممن يحبون الحزن على الإطلاق، بالعكس هو يمتلك روحاً تحب الضحك والمرح،
لكن هناك أوقات يحدث فيها أمور تمحى الابتسامة وتنسى السعادة وتقلق القلب.
يتمختر منفرداً حتى وصل إلي باب الجامعة ثم إلي محطه مترو
الانفاق، يقتطع تذكرته ليقف علي رصيف القطار بين جمع غفير مثرثر. يدخل مُثنى الي
عربة القطار ولم يكن من نصيبه أي مقعد. نهْشَلْ في العربة ذاتها، يجالس ساكناً
-كما العادة- يرتدي سماعه الاذن خاصته، كما العادة لا يبالي بمن صدمة بأمتعته أو
بمن جلس أو بمن وقف أو بمن نزل أو بمن صعد. لا يُسَلم مقعده لأحد، يتجاهله الجميع
إذا تحدث أو فعل حتى أصبح يشك في وجوده أصلاً. قيل: ملعونٌ مبعوثٌ من الجحيم موصول
بأحدهم.
بعد مرور عده محطات:
يدخلن من الباب الأيمن، جده وأم وثلاث أبناء. رداء الجدة، بَلٍ
ومنتف من الأسفل، يظهر عليه شده الهلاك. تليها الأم، ترتدي ملابس يظهر عليها
القِدم، لكنها ليس بباليه. ثم الأبناء الثلاثة، صغار السن، يرتدون ملابس جديده ونظيفة.
أجل! إنه ما تفكر فيه، الآباء والأمهات يضحون بمظهرهم من أجل مظهر أبناءهم، يريدون
أن يظهر أبناءهم بأبها مظهر.
يريدون لهم أن يكونوا أفضل منهم حالاً! هل كان هذا سبباً لتنهمر
الأم علي وجه الصبي بالصفع فقط لأنه رفض الجلوس علي المقعد، والجدة تقول أحسن عشان
بعد كدا يسمع الكلام؟ أم أن السبب الحقيقي هو حب السيطرة وفرض الانصياع؟
يكمن حال الإنسان حيثما تكمن الروح، باختصار الروح هي مصدر
الفكر والقرار، الاتزان والحِكمة، المشاعر والأخلاق. المظهر الخارجية لكل إنسان
يصف ما بداخلهم، إن كان جميلاً سيظهر مع الوقت، وإن كانت روح المرء خراباً سيظهر الصدئ
علي الذهب. لا مجال أن يختبأ باطن المرء للأبد. الرغبة في الأفضلية والتزين
بالحياء، هي طبيعية كامنه داخل قلب كل إنسان لم تقتل فِطرته.
أذكر بحثاً نشرته Jill Anderson بتاريخ
13 ابريل 2021 على موقع Usable knowledge التابع
لجامعة Harvard تحدث
البحث عن النتائج السلبية لضرب الاطفال، والتي تتلخص في تدمير الذكاء الاجتماعي
والعاطفي وانعدام الاتزان الذاتي وانهيار في القدرات الإدراكية. وإذا نظرت بظره
المسؤول ستجد أن السبب الاساسي خلف كل ما نراه من فساد هو فساد الاهل انقسهم.
قال أبو العيناء:
إِنَّ الغَنيَّ إِذا تَكَلَّمَ كَاذِباً ... قَالوا صَدَقْتَ
وَما نَطَقْتَ مُحالا
وَإِذا الفقيرُ أَصابَ قالوا لَمْ تُصِبْ ... وَكَذَبْتَ يا هذا
وَقُلْتَ ضلالا
إِنَّ الدَّراهِمَ فِي المَواطِنِ كُلّها ... تَكْسُو
الرِّجَالَ مَهابَةً وجَلالا
فَهْيَ اللِّسانُ لِمنْ أَرادَ فَصاحةً ... وَهْيَ السِّلاحُ
لِمَنْ أَرادَ قِتالا
” الكذب والنفاق، كلاهما وجهين لعمله واحدة،
لا خير فيهما. “
في محطة لاحقه:
تدخل إحدى الفتيات من الباب الأيسر، شابه جَارَ عليها الزمان
وما رحم، يظهر عليها —كما يقولون بالعامية— بنت ناس، تبيع سماعات بلوتوث وسماعات
أذن. هي تتنقل بين العربات راجيه الرزق الحلال، والرازق، وحده معين، وكفى. هي لا
تكذب، ما تحمله من سماعات تستحق الشراء. تبيع سماعه الاذن ب 15 ج، اشتري مُثنى
منها وما ندم، لكن ندم عندما أشتري سماعه أذن ب 80 ج من احد المحلات الفارهة وكان
البائع يقسم بجودتها ومميزاتها ولم تكمل معه الشهر حتى تلفت. كذلك محفظة النقود
خاصته التي اشتراها وقتما كان جالساً مع صديقه في إحدى المقاهي المتواجدة في ميدان
المحكمة، وكانت الفتاة تحوم بين ناس تحاول أن تبيع ما معها من مِحفظات وعطور. حتى
وصلت إلى مُثنى وعرضت عليه بعض من المِحفظات فلم يبال مُثنى بما تقول عن السعر أو الجودة
بل لاحظ ارتعاشها من شدة البرد. اشتري منها واحدة ب 40 جنيه. لم يكن في باله سوي
أن تعود لبيتها اليوم راضية وسعيدة بما كسبت وكفاها الحاجة. مازالت المحفظة معه حتى
الآن —سنتين— وكلما سقطت عينه عليها تذكر محفظة اشتراها ب280 جنيه وفسدت بعد أربعة
أيام.
” تكمن السعادة حيثما تجبر الخواطر المكسورة. “
” العطاء هو ما يجلب السعادة، ليس الأخذ.“
يخرج مُثني من المترو عند محطه السادات، يعبر الطريق وينظر
اتجاه السيارات ويمضي، وفجأة يدفعه نهْشَلْ بقوه إلى الأمام، سيارة مسرعة تكسر
الإشارة الحمراء كادت أن تدهسه. لم يكترث مُثنى لما حدث، نثر الأتربة عن ملابسه
وأكمل طريقه. اعتاد أفعال السفهاء، ما عاد يلقي لهم بالاً، كللٌ ومللٌ في
معاملاتهم. مُثنى لا يعاتب ولا يجادل، لما لا! والعتاب يجعل منه فريسة للسخرية.
”كونوا مدي الدهر رؤوفين
بقلوب لم تعرف الأمان، كريمةٌ زهرتٌ نبتت في منتصف أرض جرداء ، ما جارت عليه كما
جارُ وأثقلوا.“
فأين السبيل من هذا الخراب؟
أضل سعينا أم أصاب؟
توقف مثنى لشراء بعضاً من الشوكولاتة، ثم أكمل طريقه.
وصل مثنى الي وجهته، ليقابل صديقتاً له
تقول له مبتسمه: طالت منك مسافة السكة
مثنى: شكراً جداً على انتظار
ترد: لا عليك، أعرف أين كنت ...
تعليقات
إرسال تعليق